إنجازات المبتعثين

17 أوت

أحمد طالب مجتهد، أرسلته القرية إلى المدينة لكي يدرس في إحدى مدارسها الكبرى مع طلاب المدينة المتفوقين، حتى يعود إليهم وينفعهم بعلمه. وفي حصة التعبير، طلب المدرس من الطلاب أن يكتبوا موضوعاً عن النجاح بعد أن شرح لهم معنى أن يكون الشخص ناجحاً، وزودهم بالأمثلة ثم أعطاهم النموذج المثالي حتى يقتدوا به في الكتابة. وكعادة كل سنة، أقامت المدرسة حفل تكريم لطلابها في مختلف المواد، وأعلنت عن فوز أحمد بجائزة التعبير السنوية عن موضوعه في النجاح. سُرّ أحمد كثيراً بهذه الجائزة، وأبلغ عائلته بذلك. وصل الخبر إلى إعلام القرية وسرعان ماتصدرت العناوينُ الصحف بفوز أحمد في جائزة التعبير في تلك المدينة العظيمة، وتفاخر أهل القرية بفوز أحمد على طلاب المدينة المتعجرفين، فدُقت الطبول، وغردت العصافير، ورُفعت الأيادي بالدعاء له ولوالديه في خطب الجمعة، بل طالب البعض بتنصيب أحمد وزيراً عليهم عندما يرجع إليهم. وكان هناك فتيان من أهل القرية قد درسوا في تلك المدينة، وحاولوا أن يوضحوا لأهل القرية بأن أحمد يستحق الثناء كمتفوق لا التمجيد، وما فاز به هو مجرد جائزة في “مدرسة” من مدارس المدينة، فاتُهموا بالحسد.
جلب أحمد نسخاً من جرائد القرية التي تحتفي به لأستاذه لكي يريه إياها، ودخل مكتبه ليجد أكواماً من الكتب الأدبية التي أًصدرت في شتى المواضيع وعليها اسم أستاذه، بل تفاجئ عندما وجد مرجعاً من عدة أجزاء في معنى النجاح كان قد كتبه أستاذه قبل عشر سنوات. تناول الأستاذ من أحمد صحف القرية فقرأها ومالبث أن قهقه عالياً وسأل “ وهل تأثر أهل القرية كلهم بمقالتك فأصبحوا أشخاصاً ناجحين؟”.

كلنا نعلم دور الإعلام في تضخيم الأمور أو تبسيطها، وبالطبع في التأثير على رأي الجماهير. وإذا أردت مثالاً على ذلك، فانظر إلى قضية الشواذ وكيف انتقلت في الولايات المتحدة من كونها مرض نفسي إلى حق بشري في فترة بسيطة. لكن ماذا عن إعلامنا -بأنواعه الورقي، الإلكتروني و بالأخص الشبكات الإلكترونية- بحق المبتعثين؟
من الظاهر أن هناك نوعين غريبين من الأخبار فيما يختص بالمبتعثين، النوع الأول وهو الذي يتتبع عورات المبتعثين وتقوده فئة ضد الإبتعاث حتى إذا وصل إلى أسماعهم مايسوؤهم من أحد المبتعثين، أطلقوا صيحاتهم مُذكّرين بأن الإبتعاث هو أساس كل بلاء. والنوع الثاني – وهو الذي يهمنا في هذه التدوينة- الذي يبجل أعمال المبتعثين الدراسية ويرفع من قدرها وقدرهم أمام الناس.

من الرائع أن نسمع خبراً عن تفوق أحد المبتعثين، قد نفسر ذلك بحنيننا إلى أمجاد العرب بين العالمين في قرون قد خلت، فحينها يكون مدح المبتعث ثناءً عليه وتحريضاً لغيره على الإقتداء به. ولكن من المزعج أن نرى تمجيداً كالذي فعله أهل القرية بأحمد، وتضخيماً لإنجازات المبتعثين، بل وأحياناً أكاذيباً مبهرة ك”مبتعث توصل لعلاج جديد للسرطان”. فكيف نستطيع حينها أن نقرأ عن إنجازات المبتعثين بعين ناقدة حتى نميز بين ماهو إنجاز حقيقي وتضخيم لإنجاز مفروض؟

دعونا نتناقش قليلاً:
الأكاديميون في السعودية، أعني الحاصلون على شهادة الدكتوراة، لا يهتمون بالبحث العلمي. فالأكاديمي الأمريكي الذي حصل على شهادة الدكتوراة لايتوقف عندها ليعطي فقط المحاضرات الجامعية. بل تكون الدكتوراة هي بداية مشواره كأكاديمي، فهو يشرف على الطلبة في تحصيلهم للماجستير والدكتوراة، ويعطي المحاضرات الجامعية، ويحضر المؤتمرات العلمية ليشارك فيها، والأهم من ذلك يحرص على نشر أبحاث علمية. فالبحوث العلمية مهمة لأنها تضيف إلى العلم، ودول العالم تضع ميزانيات ضخمة للإنفاق على البحث العلمي- وللأسف دولة الإحتلال الصهيوني من أكثر الدول إنفاقاً- والجامعات، كهارفارد على سبيل المثال، لا تصبح قوية إلا باهتمامها بالبحث العلمي.
فالبحث العلمي لدى الأمريكي الأكاديمي هو أمر لازم حتى يكون مُنجزاً. آينشتاين مثلاً نشر أكثر من 200 ورقة علمية، كلها بالطبع أضافت للعلم ولكن الذي اُشتهر بينها هي 4 ورقات علمية في عام 1905م غيّرت تفكير العالم إلى الكون تماماً وكانت هذه الأربع ورقات إنجازاً حقيقياً بل تاريخياً.

نعود إلى المبتعثين، هل حصول المبتعث على جائزة لتفوقه في تقديم ورقة علمية هو إنجاز حقيقي؟ أم هي إضافة للعلم من المفترض أن يفعلها ككأديمي؟ هل تدريس المبتعث في جامعة قوية هو إنجاز حقيقي على الرغم من أنها قد تكون من متطلبات تحضيره للدكتوراة في تلك الجامعة؟ هل حصول أول مبتعثة سعودية على ماجستير في علم النجاح هو إنجاز حقيقي مع أن الكثيرات من غير السعوديات لديهن هذا الماجستير؟ وهل دراسة مبتعث ما في هارفارد أفضل جامعات الكون هو إنجاز حقيقي على الرغم من أن هناك 4823 طالباً غير أمريكياً يدرس في هارفارد حالياً، منهم 27 طالب سعودي فقط؟
كلها بالطبع إنجازات شخصية، لكن متى تكون إنجازات المبتعثين الشخصية إنجازات حقيقية؟ والأهم من ذلك كله، كيف نميّز الإنجازات الحقيقية عن الإنجازات الشخصية حتى لا نرفع البعض فوق قدرهم فيضعونا دون قدرنا؟

4 تعليقات to “إنجازات المبتعثين”

  1. أحمد سالم البيتي 17 أوت 2015 في 4:40 م #

    جميل ما كتبتي ولكن النجاح الشخصي بداية النجاح للمجتمع ثم يتحول الى نجاح حقيقي …..بعد ان يقدم للوطن و يرسم طريق النجاح بخطة مدروسة و مشوار الف يبدأ بحطوة .

  2. duha al - harazi 17 أوت 2015 في 6:44 م #

    يوجد قصص مخيفة تحكي عن أصحاب الإنجازات البحثية العلمية من المسلمين وعن كيفية الإستيلاء على بحوثهم أو نهايتهم المأساوية في ظروف غامضة ، وتداخل كل ذلك مع مافيا شركات الأدوية العملاقة .. الحديث عن رفع مستوى صحة البشر وسلامتهم شائك وغامض ومعقد في حقيقته .. ويبدو مثاليًا ورائعًا عندما يتفوّه به أصحاب الشأن في العالم .
    الشاهد وما أود قوله هو أن البحث العلمي ونجاحه في بعض العلوم _ لا سيما في مجال الطب والصحة الذي يتم فيه أغلبية الفرقعات الإعلامية لدينا_ ليس بالسهولة والسطحية التي يصدّرها الإعلام لنا في بروَزة أسماء مبتعثينا الطلاب والطالبات ، الواقع أكثر تعقيدًا وصعوبة ومعوقات حتى إن وجد فعلاً الإنجاز الحقيقي .

  3. husam 18 أوت 2015 في 1:34 ص #

    استمري يا جميلة العقل ! تدوينة رائعة لا جديد عليك

  4. yab3ree 29 أوت 2015 في 6:46 ص #

    قام بإعادة تدوين هذه على yab3ree.

من فضلك, اترك ردا :)