جارة زميلتي عجوز كندية تبلغ من العمر 85 عامًا مفعمة بالحياة، فهي تحرص على ركوب الدراجة كلما تحسّن الطقس، وتتلقى دروسًا في التزلج، وتجتهد في حضور ورش العمل المختلفة، كما أنها مصممة قرافيك تعمل من منزلها وتُصمم شعارات باستخدام جهازها الحاسوب، وتحب الحيوانات فكثيرًا ما تتطوع في خدمة قضايا الرفق بالحيوان.
أخبرتُ صديقتي المبتعثة عن هذه العجوز، فما كان منها إلا أن شهقت طويلّا ب”ماشاء الله”، ثم أردفت قائلة “لا أحرص على ركوب الدراجة، ولا أعرف كيف أتزلج، كما أنني لا أعلم كيف أصمم الشعار الذي أريده لمشروعي الصغير، وأكره الحيوانات! لا أدري من منّا العجوز حقّا!”.
أصبحنا نتحدث عن حال العجائز والشيوخ في بلادنا، ما إن يصبحوا أجدادّا أو في سن التقاعد حتى يعتريهم اليأس من الحياة وينتظرون الموت. لكن لماذا يختلف كبار السن الأجانب عن غيرهم من السعوديين؟ هناك أمران: الإعتماد على النفس، وكثرة الحركة.
ففي مدينة أوتاوا العاصمة والتي يقطن فيها عدد كبير من كبار السن الكنديين، لاحظت أن كبار السن يعتمدون على أنفسهم بشكل كبير، فتجد المرأة العجوز وقد بلغت من العمر عتيّاً تستخدم المشّاية لعبور الشارع وحيدة أو مع زوجها الشيخ الذي لم يستخدم هذه المشّاية بعد واكتفى بالعصا. فتعبر الشارع لوحدها، وتنتظر الباص، وتستخدم في ذلك بطاقة مُخفّضة من الحكومة إن كانت فوق ال65 من العمر، وما إن يأتي الباص حتى يُنزل لها السائق من مستوى الحافلة ليكون قريبّا من الأرض ثم يمد لها بشيء أشبه بالرصيف المنحدر يُسهّل عليها الركوب. وفي داخل الحافلة، نجد أن التعليمات واضحة بضرورة ترك المقاعد الأمامية لكبار السن وذوي الإحتياجات الخاصة وللحوامل من النساء. وقد تستقل العجوز حافلة في مدينة غير أوتاوا أو في ساعات الذروة، وتجدها مُزدحمّة بالناس والمقاعد مشغولة، فيتظاهر البعض بعدم رؤيتها حتى يتطوّع شخص بالتنازل عن مقعده لهذه العجوز. ثم تتسوق وتشتري حاجيتها بنفسها، وقد تعيش في المساكن المشهورة بوجود كبار السن فيها لتعدد خدماتها ولتُكَوّن علاقات مع كبار السن من جيلها في هذا الحي. تخبرني إحدى صديقاتي -والتي تسكن في مُجمّع يكثر فيه كبار السن- عن كثرة وصول إعلانات التوابيت والمقابر إلى بريدها، وعن أصوات سيارات الإسعاف التي تسمعها من بين حين إلى آخر.
لكن الملاحظ أن كبار السن هنا يستمرون في العطاء والتعلم. روت لي صديقتي عن البروفسور الكهل الذي قابلته، لديه أوراق بحثية بالمئات ومطّلع على آخر المستجدات والأوراق العلمية في تخصصه، يستخدم البريد الإلكتروني و”سكايب” للتواصل مع بناته أو حفيداته، كما أنه يحرص على إستخدام الدرج بدلّا من المصعد.
لكن ما هو الحال في بلادنا؟
نطلق على مرحلة انقطاع الطمث لدى المرأة ب”سن اليأس” وهو مصطلح يُوحي بشعور المرأة باليأس والعجز لعدم قدرتها على الإنجاب مقارنة بشريكها الرجل والذي يستطيع أن يُنجب أطفالّا حتى وإن تجاوز السبعين من العمر، والعجيب أن هذا المصطلح غير موجود في اللغة الإنجليزية والتي تُشير إليه فقط ب“إنقطاع الدورة”. الكثير من النساء لا يمارسن الرياضة وذلك إما بسبب تحريم الرياضة والنوادي الرياضية من قِبل بعض المشايخ، أو لعدم وجود مساحة كافية تتحرك فيها بحرية كالحدائق، وحتى المُدن نفسها ليست مُهيأة للمشي. أذكر أن أحد الزملاء الأجانب سألني عما إذا كان باستطاعتي المشي بحرية في شوارع السعودية كوني امرأة ترتدي العباءة، أخبرته ضاحكة أنه لن يجد حتى رجلّا في الشارع يمشي من مكان لآخر فضلّا عن امرأة وذلك لقسوة الطقس ولأن تخطيط مدننا لا يدعم المشي. لا تستطيع المرأة السعودية من الأساس الإنتقال من نقطة إلى أخرى دون وجود سائق حتى وإن كانت هذه النقطة بقالة صغيرة تبعد عن البيت بمسافة 5 دقائق من السير على الأقدام.
ومن الملاحظ أن كبار السن الأجانب كثيرو الحركة، فلإعتمادهم على النفس أصبحوا يتحركون كثيرّا ويقضون حاجاتهم اليومية بأنفسهم، ويستخدمون الدرج بسهولة. تنازلتُ ذات مرة عن مقعدي لأحد الشيّاب الأجانب ودعوته لأن يجلس مكاني، فما كان منه إلا أن رمقني بنظرة غاضبة، كأنه يقول لي لستُ كهلّا للدرجة التي تجعلني لا أستطيع الإنتظار واقفًا!
وعلى النقيض من ذلك، نلاحظ أن الأم السعودية الكبيرة في السن أو الجدة تعتمد كثيرًا على أبنائها، وأحيانّا تسيطر عليهم وتستخدم ذلك كحق مشروع كونها تعبت في تربيتها لهم. ويخدم الأبناءُ والديهم في كل صغيرة وكبيرة من باب البر والإحسان ويتذللون إليهما خاصة إذا بلغ الكبر أحدهما أو كلاهما. وكبار السن في السعودية لهم احترام كبير ينشأ من الدين ومن العادات، فلا يستطيع أحد أن يُسكت شيخ غاضب من نقده اللاذع. وقد يكون احترامنا لكبار السن- وإن كان شكليّا على الأقل- أكبر من احترام الأجانب لكبارهم. فلا نستطيع أن ندعو امرأة كبيرة في السن أو رجل كبير باسمه الأول، لكن الأجانب يفعلون ذلك. أذكر أنني كنتُ أتفادى مناداة أستاذة اللغة العجوز في المعهد باسمها الأول كما يفعل الزملاء، وعندما اُضطررت ذات مرة إلى مناداتها استخدمتُ كلمة “تيتشر” الإنجليزية- لم أكن أعرف اسمها الأخير أو لقبها ولم أرغب باستخدام كلمة مدام- فشاطت غضبّا وأخبرتني بأن هذا قد يُعدّ من قلة الإحترام أو أنني استهزأ بها لإستخدامي لهذه الكلمة، وضّحت لها مقصدي فهدأت وقالت بأنه لا بأس من مناداتها باسمها الأول فكذلك يفعل الجميع. فاستخدام الإسم ليس إهانة على الإطلاق، وكيف يغضب الشخص من سماع اسمه الأول؟
وأذكر أنني مرة تفاجئت من أحد الطلاب في إحدى المحاضرات وهو يمًد قدميه على الكرسي الذي أمامه ليجعل حذاءه في وجه الدكتور العجوز. نظرت حولي فلم أجد أحدّا مكترثًا غيري، علمتُ بعدها بأن نظرة العربي للحذاء تختلف عن الأجنبي. فقد يستخدم العربي كلمة حذاء بالعامية كشتيمة لأحدهم، وعند ذكر الحذاء يُلحقه ب”أكرمك الله”، كما أن حادثة رمي منتظر الزيدي الحذاء على جورج بوش كان لها واقع الأثر لأنه أهانه بشيء يحتقره العرب، ولاننس بأن بعضنا تعوّد على قلب الحذاء إن كان مقلوبّا وباطنه تجاه السماء. وعندما يمد العربي قدميه لتعب أو لمرض فإنه يعتذر لمن حوله حتى يجد من يوقّره فلا يستطيع أن يمد رجليه إلا إذا استصغر من أمامه “آن لأبي حنيفة أن يمد رجليه”.
والرجل السعودي ما إن يتقاعد حتى يشعر بأنه عديم الفائدة، وهناك الكثير من النكت حول حال الرجل السعودي إذا تقاعد كحرصه على إطفاء الأنوار، وتفقّد أحوال البيت، والسهر في الإستراحات، وكثرة مشاركته في مجموعات “واتساب” وغيرها. لماذا هذا الشعور بعدم الفائدة واليأس من الحياة؟ تذكّرت قول زهير بن أبي سُلمى “سئمتُ تكاليف الحياة ومن يعش.. ثمانين حولّا لا أبا لك يسأم!”. هل هو اعتقاد عربي قديم بالزهد في الحياة عند كبر السن؟ قارنوا بيت زهير مع مقالة أوليفر ساكس عالِم الأعصاب البريطاني الذي كتبها عندما بلغ الثمانين فقال “أشعر بأنني سعيد لأنني على قيد الحياة!”. هل هي أمراض وتعب الشيخوخة بسبب ممارسة عادات غير صحية كقلة الحركة وتناول طعام غير صحي؟ أم هو نمط الحياة الممل وانعدام وسائل الترفيه؟
وقد يُلازم كبار السن منازلهم تمامًا فلا يخرجون منها- إلا ماندر- وإنما يستقبلون الناس وبخاصة أبنائهم وأحفادهم فيها. وحول ماذا تدور أحاديثهم؟
تُخبرني صديقتي بأن الفجوة التي بين جيلنا وبين كبار السن كبيرة أكبر بكثير من الفجوة التي بين شباب الأجانب وبين شُيّابهم. فنحن نستطيع التحدث بالإنجليزية، ونستخدم الهواتف الذكية، وأجهزة الكمبيوتر بأنواعها كاللاب توب والآيباد، ولدينا خبرة لا بأس بها عن العالم الخارجي من أخبار حقيقية وتافهة، أما كبار السن لدينا فيندر أن يتحدث أحدهم بالإنجليزية، أو يكون لديه هاتف ذكي، أو يستطيع استخدام جهاز الكمبيوتر دون الرجوع إلى أبنائه. وأغلب مواضيعنا تدور حول هذه الأمور، فكيف نستطيع أن نتواصل معهم بسهولة بدون أن نحرص على التبسيط والتوضيح في كل مرة؟ إلا أن نتجنب بقدر الإمكان أن تكون أحاديثنا حولها.
لا نستطيع إلقاء اللوم على النساء الكبيرات في السن على تأخرهن في التعلم ونحن نعلم جيّدًا أن التعليم قد حُرّم على المرأة في فترة من الفترات، بل قد ساد الإعتقاد بأن المرأة خُلقت حتى تلتزم البيت فهي تنتقل بين 4 بيوت “بطن أمها، ثم بيت أبيها، ثم بيت زوجها، ثم القبر”.
لكن ما حال الكهل الذي يرفض التجديد، ويرحب بما كل هو قديم، ويستثقل التعلم وقد قال إمام مذهبه “مع المحبرة إلى المقبرة”؟